جعل الله الصّوم في شهر رمضان، وسيلةً من وسائل صنع الإنسان التقيّ:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[البقرة: 183].
فأن تكون الصّائم المقبول، هو أن تكون الإنسان التقيّ من خلال صومك، والتقيّ في عقيدتك، وأن تستقيم عقيدتك على الخطّ، يعني أن تكون التقيّ في عبادتك، وأن تخلص لله في العبادة، يفرض عليك أن تكون التقيّ في علاقاتك مع النّاس، وأن تتحسّس مسؤوليّتك في أن تنفتح على النّاس من خلال منافذ الخير والمحبّة والهداية والنور الذي يشعّ في عقلك وقلبك، بل وأن تكون الإنسان النفّاع للنّاس (المبارك)، وأن تكون الإنسان العادل مع النّاس، وأن تكون الخيّر في كلّ نشاطاتك الّتي تتعاطاها في حياة النّاس، لتعيش مع الناس كجزء من مجتمع أو من أمّة أو من إنسانيّة تتكامل مع الأجزاء الأخرى، فتنفعل بها وتتفاعل معها، أن تكون الصّائم المقبول في كلّ مواقفك ومواقعك.
ولقد حدّثنا الله سبحانه وتعالى عن الجوانب السلبيّة في علاقة الإنسان بالآخرين في المجال الاجتماعي الإنساني، بطريقة تشعر فيه بخطورة شديدة
{وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} [هود:113]، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب:85]،
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات:12].
وهكذا نجد أنّ الله سبحانه وتعالى يحرّك أمامنا كلّ هذه القيم السلبية المرفوضة، لأنّها تُساهم في إسقاط الإنسان الآخر وفي تحطيم كرامته، بل وفي تحطيم حياته بطريقة وبأخرى.. لذلك فإنّ الصّوم يوحي إليك بأن تكون التقيّ في الجانب السلبي، وذلك بأن ترفض كلّ القيم السلبيّة، وأن تكون التقيّ في الجانب الإيجابيّ، بأن تتبنّى كلّ القيم الإيجابيّة، من الصدق والأمانة والعفّة والنّفع للنّاس والأخذ بالحقّ والانفتاح على العدل، وما إلى ذلك من قيم الحقّ الّتي جمعها الله سبحانه وتعالى في المنهج الأخلاقي الّذي رسمه للإنسان.
الانفتاح على القرآنوإذا التقينا في شهر رمضان بالقرآن، فهو النّور الّذي يشرق في عقولنا وقلوبنا وحياتنا، ويهدينا إلى سُبُل السَّلام، لنتّبع رضوان الله من خلال عطاءات هذا الكتاب الكريم وبركاته وفيوضاته، ولنعيشَ زكاة أنفسنا وانفتاحنا على الله من خلاله، وتأسيساً على كلّ ذلك، فإنّ الجولة الرمضانيّة الصلاتيّة الصوفيّة الدعائيّة القرآنيّة في شهر رمضان، تعني في المحصّلة النهائيّة أن نصنعَ إنساناً جديداً لا عهد له بالإنسان القديم (إنسان ما قبل شهر رمضان)، ذلك أن الإنسان التقي هو الّذي يتخفّف من كلّ ذنوبه، وهو الّذي ينفقُ سرّاً وعلانيةً، وهو الكاظم للغيظ، العافي عن النّاس والمحسن إليهم، والّذي لا يصرّ على المعصية، والّذي لا يستكبر ولا يخون..
فهل سألنا أنفسنا بعد شهر رمضان: ما هو حجم التّقوى في عقولنا؟ هل بتْنا نملك العقل التقيّ الّذي يحرّك كلّ أفكارنا في طريق الحقّ ولا يحرّكها في طريق الباطل؟ هل استطعنا أن نحصُل على هذه التّقوى العقليّة، ليكون ميزانها العدل لا الظّلم؟ وهل استطعنا في شهر رمضان أن نحصل على القلب التقيّ من خلال إنسان العاطفة التقيّة التي تنبض بالمحبّة للمؤمنين لتلتقي معهم في طاعة الله، وتلتقي بالمحبّة لغير المؤمنين لتهديهم إلى سبيل الله وإلى طريق الله، لأنّ المؤمن لا يفكّر فقط في المؤمنين، وإنّما يفكر في النّاس كافّة...
فكُن كالشَّمس تطلع على البرِّ والفاجر، وذلك بأن تفكِّر في المؤمنين لتتعاون معهم على البرّ والتّقوى، وأن تفكّر في الكافرين لتتعاون مع أنفسهم بهدايتهم إلى سبيل السرّاء وسواء السّبيل.
إنَّ القلب المغلق على النَّاس، هو قلبٌ لا يستطيع أن يهديَ أحداً بالمرّة، فعندما تحقد على أيّ إنسان يختلف معك، وتعيش البغض والعداوة منه ومعه، فكيف يمكن لك أن تجعل كلماتك تدخل إلى قلبه؟ إنّ الكلمة المغموسة بالحقد، لا يمكن أن ينفتح لها قلب الآخر، بعكس الكلمة المغموسة بالمحبّة الّتي تنفتح عليها حتّى القلوب الجامدة المتحجّرة.. ولذلك قال الله تعالى في طمأنينة:
{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128].
حساب النّفس
لتكن جلستنا بعد طول عناء، وفي أجواء شهر رمضان المبارك، مع أنفسنا ومع ربّنا، جلسة نفحص فيها عقولنا كيف صارت، وقلوبنا كيف صارت، وحياتنا كيف استعملت، هل نحن الأتقياء الّذين نتّقي الله ونخافه في كلّ ما نتكلّم وفي كلّ ما نفعل؟ لأنّ شهر رمضان هو شهر التقوى الحياتيّة، وعلينا أن نتعلّم كيف نملأ هذا الشّهر بكلّ المعاني الروحيّة والإنسانيّة والاجتماعيّة والعباديّة، حتّى يعيش الإنسان مع ربّه ومع الإنسان من حوله ومع نفسه ومع الحياة كلّها، من منطلق الحقّ والعدل والخير، وعند ذلك يقرب من الله، لأنّ الله تعالى يحبّ الّذين يدعون إلى الحقّ ويعملون الخير ويسيرون مع خطى العدل والتّقوى في كلّ مجالات الحياة...
فلتكن عقولنا منفتحةً على الله في الحقّ والخير، وحين نحرِّك عواطفنا في قلوبنا، فإنّ علينا أن نجعل عاطفتنا منسجمة مع الخطّ الّذي يرضاه الله، بأن نحبّ في الله ونبغض في الله، وأن نوالي أولياء الله ونعادي أعداء الله، وحين نتحرّك، فلتكن كلّ الحركات سائرة في خطّ التّقوى العباديّة، وفي الخطّ المستقيم في الأجواء الرّمضانيّة الخيّرة الّتي يجب على الجميع أن يتنفّسها في شهر دُعِيَ النّاس فيه إلى ضيافة الله:
{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ}.. {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[البقرة:183].. إنّها تقوى الله في شهر الله وأيّام الله، المحمّلة بالبركة والرّحمة والمغفرة...
المصدر: كتاب "تقوى الصّوم