كـُتب الكثير وسيـُكتب اكثر بعدُ في شأن معركة القصير. البعض يتنبأ بأنها ستترك أثرها على الاحداث الجارية في بقية الاراضي السورية وعلى مسار جنيف – 2، والبعض الآخر يقول أن تداعياتها سترتد على الوضع في لبنان سلبا او ايجابا. لكن القصير، على اهمية الحدث من الناحية العسكرية الاستراتيجية، لن تحسم لوحدها الموقف برمته، وإن شكلت بداية مسار الحسم الذي سيكون على الارجح سياسيا وعسكريا في آن معاً.
لكي ندرك اهمية نتائج معركة القصير، علينا ان نرجع قليلا الى ما قيل عقب الجولة الاولى من القتال على محاور المدينة قبل نحو شهر. قال بعضهم، وفيهم اميركيون، ان ذلك دليل على ان "لقدرات حزب الله حدوداً"، ومعنى ذلك ان حزب الله يمكن ان يُهزم بسهولة، وان إسباغ تصورات اسطورية سابقاً على هذه المقدرة ربما لم يكن في محله. وراقب الاسرائيليون من جهتهم باهتمام شديد مجريات معركة القصير، لأنهم يريدون ان يعرفوا مدى تطور قدرات حزب الله على الصعيد القتالي، وهو الذي أوقف زحف جيشهم في العام 2006 على تخوم قرى لبنانية حدودية الى نهاية تلك الحرب.
وفي الواقع، ان الجولة الاولى من معركة القصير كانت مجرد اختبار وتمهيد لاختراق معاقل الجماعات المسلحة، وكان الجيش السوري وحزب الله يدركان ان في المدينة آلاف المسلحين الذين يتحصنون بين المباني وداخل أنفاق تصلح لقتال طويل الامد، وقد أعدا أساليب قتالية مستحدثة تمت الاستفادة فيها من التجارب الماضية في الحرب مع العدو الاسرائيلي ومع الجماعات المسلحة في سوريا، وأضيفت اليها عناصر تراعي البيئة الجغرافية والبشرية في القصير.
وأتركُ المجال للمختصين ليتحدثوا عن الجانب العسكري الذي قد يبقى مع ذلك لغزاً لفترة طويلة بسبب طريقة التقدم وسرعة الانجاز التي فاجأت حتى الجماعات المسلحة التي اعتقدت الى آخر لحظة ان المدينة لن تسقط من أيديها، لأسباب عدة.
غير اننا نعرف ان ما جرى يمكن ان تكون له انعكاسات على مجرى الصراع في سوريا وعلى سوريا:
اولاً: ان الدول التي كانت تدفع بكل طاقتها لإحداث تغيير في المعادلة الميدانية، أضحت الآن متشككة، على الأقل، في قدرة المعارضة المسلحة على إسقاط النظام، وتنبئ ردة فعلها الهستيرية تجاه حزب الله الى حد الدعوة في قطر والسعودية على أعلى المستويات للنفير العام ضد حزب الله بأن هذه الدول ومن يقف خلفها أصيبت بإحباط شديد من جراء التطورات ابتداء من القصير. وهي تدرك ان ما بعد القصير قد يكون أسوأ بالنسبة لها لأن حجر "الدومينو" يفعل فعله في المعادلة السورية التي تعتمد الى حد كبير على العامل المعنوي، اضافة الى القدرة على التخطيط والتنظيم وهي عوامل تقف حاليا في جانب النظام وحلفائه. وقد سارعت الجماعات المسلحة، بدفع من داعميها، الى شن هجمات مستعجَلة للتخفيف من الأثر المعنوي المدمر لمعركة القصير، وتـُرجم ذلك في القنيطرة بالجولان وفي مطار منغ العسكري بريف حلب.
ثانياً: من الواضح ان التحضير لمفاوضات جنيف- 2 سيتأثر بالوضع الميداني المتغير، وقد يكون حدثَ تأخير اضافي على الموعد المبدئي لحصوله، لأن الجميع يريد ان يعرف اين سترسو الاوضاع الميدانية قبل تقرير طبيعة التسوية التي سـتُرسم. وجاء التلويح الاميركي بإمكان اللجوء الى فرض منطقة حظر طيران فوق سوريا خلال المرحلة الاولى من معركة القصير، وهو ما يعني تدخلا عسكريا بشكل او آخر، ليشير الى ان الادارة الاميركية منزعجة من مسار الاوضاع على الارض. كما قامت واشنطن وحلفاؤها بجملة خطوات لاستخدام ذرائع مثل الحديث عن "استخدام اسلحة كيمائية" او "ارتكاب مجازر" في القصير، ما يؤشر الى الشعور بالمأزق لدى هذا الفريق. في المقابل، أخذت روسيا نفـَساً اضافيا وتعززت ثقتها بموقفها على ضوء تطورات الميدان وبعثت برسائل تنم عن مبادرة هجومية، اذ اكدت التزامها بتزويد سوريا بمنظومة دفاع جوي من طراز اس- 300 المتقدمة وطائرات ميغ- 29 لمجابهة طرح منطقة حظر الطيران، كما ارسلت قطعا بحرية في اطار انتشار دائم في البحر المتوسط ، وأكدت دعمها مشاركة ايران في مؤتمر جنيف بعدما ضمنت حضور ممثلين عن الحكومة السورية.
ثالثاً: لبنانيا، انطلقت صافرات الانذار بـ"حرب أهلية مذهبية" نتيجة قرار حزب الله تأمين ظهره الاستراتيجي، وبلغ التهويل مداه وأصبح خطابا يوميا على ألسنة قادة 14 آذار، هؤلاء الذين لم يبخلوا بأية وسيلة من شأنها ان تسهم في تأجيج النار في سوريا منذ اندلاعها (تسليحا وتمويلا وتوفير بيئة حاضنة للمسلحين في سوريا وصولا الى التغاضي عن ارسال مقاتلين الى هناك)، وكلها أمل في ان تنتهي الامور الى اسقاط النظام في دمشق لكي تتولى هي لاحقا إكمال مشروعها في "ثورة الارز" بهدف إسقاط المقاومة. ولم يعد هؤلاء يجدون حرجاً في إعلاء سقفهم من دون أي حساب لخط الرجعة، رافضين مشاركة حزب الله في الحكومة المقبلة، ومطلقين عليه أبشع النعوت. وذلك ليس غريبا، في ضوء حقيقة ان هذه القوى ستشعر بفراغ هائل وانعدام في الوزن في حال خابت توقعاتها وجرت الامور في سوريا على خلاف ما تشتهي.
رابعا: على المستوى الاسرائيلي، فرضت معركة القصير وما سبقها من إنذار سوري، حدوداً للتدخل الاسرائيلي الذي بات عليه ان يحسب إمكان الانخراط في حرب واسعة، في حال أقدم على ضرب سوريا مرة أخرى. لكن ذلك لن يلغي احتمال إقدام الاسرائيلي على التدخل انطلاقا من حساباته الهادفة الى منع تشكل معادلة جديدة على ارض سوريا قوامها التلاحم بين الجيش السوري والمقاومة في مواجهة مساعي القضاء على هذه القلعة التي استعصت على مشاريع التسوية الاميركية والتطبيع العربي الرسمي مع العدو طوال عشرين عاما. ومن هنا، فإن المرحلة المقبلة قد تحمل العديد من التطورات الدراماتيكية.
الرهان هو على ما بعد معركة القصير، ونتائج المعركة يمكن ان تقصّر من عمر الازمة السورية باعتبار ان من شأنها ان تسهم في زرع اليأس في نفوس الجهات الاقليمية والدولية التي تراهن على الحل العسكري. لكن حِلف الحرب على سوريا لا يزال حتى الآن يعدّ العدة لإلقاء مزيد من الحطب ومحاولة تغيير المعادلة، ولو بتوسيع نطاق النيران.
المواجهة تحتدم، ومزيد من اللاعبين يندفعون الى الساحة، بعضهم بخلفية استراتيجية، وبعضهم الآخر بحسابات مشحونة عفا عليها الدهر.