يسير ركب الإمام الحسين(ع) من مكة المكرمة إلى العراق وهو يعلم أن وقوف هذا الركب سيكون على أجساد أطهر من حملتهم الأرض، يسير الامام الحسين(ع) بالركب وهو يعلم أنه يقتل والهدف في المسير لم يكن العراق وحسب وهي بقعة الحدث؛ إنما الهدف الوصول إلى الآخرة، وتجسيد كل مبادئ وقيم السماء التي مثلتها وجسدتها كربلاء الحسين(ع).
خرج الإمام الحسين(ع) من مكة المكرمة إلى أرض كربلاء وكان يذّكر من حوله بقصة النبي يحيى، ويؤكد ويقول: «من هوان الدنيا على الله أن يهدى رأس يحيى بن زكريا إلى بغي من بغايا بني إسرائيل» لماذا؟. لكي يذّكر من حوله ويؤكد لهم أن حركته ليست لتنصيبه على رأس السلطة، أو للحصول على شهرة، وإنما كان يريد الآخرة وان الدنيا هينة، ولذا يسعى إلى ما سوف يسبب ذبحه كما ذبح يحيى بن زكريا.
يسير مع الركب وهو يكرر قوله تعالى: « تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ »، (القصص / 83)، ليذكر الركب بأهداف هذه القافلة، الأهداف السامية، التي لا تتوفر في عالم الدنيا إنما مقرها الآخرة.
وحيث دق العدو طبول الحرب بعد أن حاصر قافلة ابن رسول الله في الطف بقيادة عمر بن سعد وشمر بن ذي الجوشن، وحيث كانت ليلة العاشر من محرم، سأل الإمام القوم أن يمهلوه سواد تلك الليلة، لم تكن تلك الليلة لأجل كسب الوقت في الدنيا، ولكن الحسين(ع) - طلب منهم أن يمهلوه سواد الليلة التاسعة حتى يتسنى له إقامة الصلاة مع أصحابه وعائلته.
كان يوطن نفسه وأصحابه (رض) وأهل بيته للقاء الموت، كان يهيئهم لهذا الموقف العظيم، حتى حولوا صباح العاشر من المحرم إلى ملحمة القيّم العظمى، فكان الصحب والأهل يجسدوا الإسلام بكل قيمه التي حملتها الرسالة النبوية الإسلامية، هيّأوا أنفسهم للقتل، بالصلاة، بقراءة القرآن، والدعاء إلى الله تعالى.
تلك الليلة لم تكن ليلة بكاء وندب، بل كانت ليلة تهيأ ليتخذ كل ثائر دوره في ثورة الامام الحسين(ع) العظيمة التي لم تنته في ظهيرة العاشر بل امتدت لتكون في كل محرم وقتا للثوار والمجاهدين ليجددوا عهدهم بتلك القيّم التي جسدها أصحاب الحسين واهل بيته.
نقف على أعتاب الذكرى الثلاثمائة والثلاث والسبعين بعد الألف لملحمة كربلاء الخالدة، وقطيفنا تفتقد هذا العام خمسة عشر شابا قضوا ظلما وعدوانا، وثلاث وعشرين شابا مطاردون بلا ذنب أو جريمة سوى مطالبتهم بحقوق شعبهم المسلوبة، قضى منهم من قضى غدرا وعدوانا كما كان رسول الحسين(ع) في الكوفة، وعشرات المغيبين خلف القضبان، من بينهم شيخ جليل وعالم فقيه ربى أمة وأسس مدرسة علمية، حسينية، ثورية، قرآنية استطاعت أن تدخل فكرها ونهجها الحسيني الرسالي إلى كل بيت وفي قلب كل مؤمن تعلم من ملحمة كربلاء أن الامام الحسين(ع) باق ما بقي الدهر، وأن يزيد واليزيديين إلى زوال يلفظهم التاريخ كما لفظ من سبقهم من الظلمة والطواغيت والفراعنة، نعم سيلفظهم التاريخ ولن تذكر أسماؤهم إلا للتندّر والذم والاستعاذة بالله من الارتكاس.
شيخنا المغيب عنا هذا العام لم يرد شيء من حطام هذه الدنيا كما ينقل الأستاذ "محمد باقر النمر" في زيارته للشيخ في معتقله بمستشفى القوى الأمنية في العاشر من نوفمبر الجاري لعام 2012م، نعم قال «لا» لكل الدنيا كما قالها سيده ومولاه أبا عبدالله الحسين(ع)، بل وطن نفسه لساعة الشهادة، بل كانت بغيته وأمنيته، ولعمري أن الرصاصات الجائرة عندما اخترقت جسده النحيل رحب بها ظناً منه أنها رصاصة اللقاء بالآخرة.
نحن نعلم علم اليقين أن شيخنا لا يتعذب من مرارة السجن أو قسوة السجان، فهو الذي وطن نفسه وروحه الطاهرة لهذه الساعة ولما أعظم منها، بل يجد فيها سلوة تقربه لربه أكثر، بل إن المعذبين هم أحبته وأتباعه الذين مازالوا يقدموا الغالي والنفيس ليعود الحبيب لأحبابه ويعود الأب لبيته. ومخطئ من كان يعتقد أن بقتل الحسين سيقتل القيّم التي ثار لأجلها، ومخطئ من يعتقد كذلك أنه بتغييب القائد والمربي والأستاذ ستغيب تلك القيّم التي غرسها، وصدى صوت الأحرار في كل بيت يدوي وعلى الظالم أن يسمع صوتهم وهم يهتفون: في وجه كل من ظلم.. النمر يبقى والقيم.
بقلم الكاتب السعودي: منتظر الشيخ احمد