إنَّ الشاب وإستمراراً لدور العائلة والمدرسة يتلقى مفاهيم تربوية معينة تحاول توجيه شخصيته إلى منحى معين، يتمثل في أغلب الأحيان بالإستقامة، والعقلانية، والتمسك بالموروث، وشرفية الإنتماء العرقي والديني والجغرافي، ومفاهيم أخرى. وتتشكل عبر هذا البناء منظومة قيمية تمثل المسطرة المعيارية التي ترتسم على أساسها أحكام الشاب. ويتقابل مع هذه المدخلات روافد أخرى تتمثل بمختلف وسائل التوصيل والتلقين، كالتلفزيون والأنترنت وجماعات اللعب واللهو وغيرها. وهذه المدخلات تغذي الشاب بمفاهيم مختلفة منها النزوع إلى التلبس بالعصرنة المظهرية، والإنفتاح على الآخرين، وموافقة الموديل، والإنغماس في السهر واللعب واللهو وغيرها من المظاهر.. وهذا التناقض (بين مدخلات تربيته) يؤدي إلى إضطراب في المنظومة القيمية للشاب بحيث يصبح من العسير عليه إعطاء أحكام مناسبة حول ما هو مقبول أو غير مقبول، وما هو جائز وغير جائز، وما هو مناسب وغير مناسب...
إنّ هذين الصوتين يصرخان، كل منهما في أذن من أذني الشاب، وكل منهما يقول له: (إننا لك من الناصحين)، و(اتبعنا نهدك إلى طريق السعادة والرفاه). وأكيداً يلتحق بهذا الصراع الخارجي صراع داخلي يتمثل بين العقل والشهوات، بين الضمير والغرائز، فيقع الشاب فريسة هذا الصراع المقيت، وقلَّما يستطيع أن يفرز الأشياء بشكل دقيق، ويحصل على صورة حسنة متكاملة منتقاة من مختلف الروافد التي تصب في شخصيته.
إنَّ صراع القديم والحديث، وأفكار الماضي والحاضر، والموديل القديم والموضة العصرية، هو تحدِّي حقيقي وفاعل، ولا أعتقد أن هناك شابا واحداً مستثنى من دائرة هذا الصراع والتحدي. ويدخل ضمن هذا التحدي التقابل بين منهجية الدين التربوية والمنظومات المناهضة له بكل أشكالها. أكتفي بهذه التحديات الرئيسية والتي تتضمن في طياتها الكثير من التحديات الفرعية، لأنتقل إلى الفقرة الأخرى من دراستنا الموجزة التي تتعلق بالحاجات الضرورية للشباب، وسنسلسلها في النقاط التالية:
- الحاجات الضرورية للشباب:
1- الإستقرار النفسي: تتفتح آفاق الإنسان في هذه المرحلة المهمة والحرجة من حياته، ويتفاعل فيها مع جميع المؤثرات التي تحيطه بقوة وإثارة، الأمر الذي يعكس ردود أفعال متعددة ومتباينة في أغلب الأحيان. ومن جهة أخرى تمثل هذه المرحلة البيئة الخصبة للأسئلة التي تتوجه إلى الأعماق والتي تناقش الكينونة، والمستقبل، والمصير، والقيم، وغيرها من الموضوعات الشائكة. كل ذلك من شأنه أن يخلق حالة من القلق والتوتر والإهتزاز المستمر، لذا يبرز (الاستقرار النفسي) كأهم حاجة للذات في جانبيها المادي والمعنوي. فالشاب بحاجة إلى منظومة تربوية توازن بين ضروراته وقدراته وخصوصيات الواقع والمرحلة، وتغذي كل جانب منه (الروح والقلب والبدن والعقل) بما يحتاجه. ويبرز الإيمان (بمثل أعلى مطلق)، كأهم الروافد التي تخلق حالة الإستقرار والسكينة، وتوجه حياة المرء إلى حركة تصاعدية فاعلة ومنتجة، يقول (وليم جيمس) الأستاذ في جامعة هارفارد "إنّ الإيمان من القوى التي تساعد الإنسان على الحياة، والتي يعدُّ فقدانها بمثابة الموت والفناء". ولذلك ألتفت الغرب إلى هذه الحقيقة ولكن متأخرا. ففي أمريكا يجري الإهتمام اليوم كثيراً بدرس الدين، وتعويد الطلاب بمختلف مراحلهم وخصوصاً (اليافعين)، على الوقوف للصلاة، والتأمل في الكون، ومناجاة الرب.
إنّ الضغط النفسي الذي تشكله مدخلات متعددة، كالحاجة الجنسية، وقلق المصير، والعوز، والتضارب التربوي، وغيرها من المدخلات، يمثل أعظم المعاول التي تهدم كيان الشباب. وفي الصور التي يطول فيها هذا الضغط دون أن يجد ما يبدده، قد ينتهي بالإنتحار، وهذا ما تسجله الإحصاءات في البلدان المرتفعة الأعداد في قضايا الإنتحار.
إنّ الإستقرار هو السكون والطمأنينة والرضى والتعاطي الإيجابي مع التحديات والضغوطات، وهو أهم من الغذاء البايولوجي. فما أكثر الحالات التي يعزف فيها الإنسان عن الطعام عندما يتعرض للقلق والاهتزاز النفسي. ولا يتحقق هذا الاستقرار من خلال مجموعة نصائح وتوصيات، وإنما يحتاج إلى (منظومة تربوية)، تشكل ذات الشباب في (أعماقه وظاهره)، وتوافق فطرته هواجسه الذاتية. ويمثل (بناء اعتقاداته)، بشكل سليم خالي من (التطرف والغلو والانحراف)، أهم الركائز في هذه العملية التربوية الخالقة للاستقرار والطمأنينة.
2- الإشباع الجنسي والعاطفي المتوازن: قد يحاول البعض التقليل من أهمية هذه الحاجة أو التعالي عليها وتصويرها، بأنها غير ضرورية ولا تحتل مرتبة متقدمة في حياة الإنسان عموماً. واعتقد إن هذا الرأي إما صادر عن غير دراية ووعي لجوهر الإنسان وما ينطوي عليه كنهه من أسرار وضرورات، أو محاولة وعظية تجافي الواقع وتغتال الحقائق.
الشباب، هو عمر الاندفاع للغرائز والاستثارة السريعة، ومع التحديات الصارخة التي يطوقه بها الواقع من خلال قنواته المتعددة، كل ذلك يجعل من الإرضاء المتوازن المشروع هو الحاجة الملحة. وقد التفتت الأديان عموما والإسلام خصوصاً إلى هذه الحقيقة، لأنها عالمة بحقيقة الإنسان وكنهه، إلى هذه الحاجة وأمرت بإرضائها بأسرع وقت ممكن وبسبل متعددة تكفل تحقق حالة الرضى التي يتبعها حالة الاستقرار والتوازن، والضروريان لفاعلية الإنسان الإيجابية ويدخل في هذه الفقرة مسألة حصول فرصة مناسبة للاقتران المشروع (للفتى والفتاة)، بحيث تجد عواطفهما متنفسا مناسباً لبنائها وفضاءات مقبولة تتحرك من خلالها. وأنبه في خاتمة هذه الفقرة إلى إن هذه الحاجة إذا لم تجد المسارب الصحيحة لتلبيتها، فإنها تأخذ أحد طريقين سيئين: إما أن تنعكس إلى حرمان يشل ذات الشاب ويعصف بمحتواها، أو تأخذ مسارب غير مشروعة لإرضائها وهو الذي يحمل الشاب والمجتمع تركة باهضة من آثار الفساد والإفساد.
3- فرصة مناسبة للتعليم: تمثل هذه المرحلة من حياة الإنسان، الأهم في تشكيل مستقبله والتوجه الذي ستتجه إليه مسيرته الحياتية بعمومها. ولا شك في إنّ التعليم (كماً ونوعاً) أهم العوامل المؤثرة في رسم ملامح الشخصية ونوع المهنة أو العمل الذي تتجه إليه.
إنّ فرص التعليم المتاحة في بلدنا لا تكفي من حيث الكم والنوع والقدرة لاستيعاب وتلبية حاجات الشباب (ذكوراً وإناثاً)، وما زالت خيارات التعليم محدودة مما يضطر الكثيرين لاختيار اتجاهات تعليمية لا تناسب رغباتهم وكفاءاتهم، مما يخلق حالة من التململ وعدم الاتساق بين الفرد والفرع الذي يدرسه والمهنة التي سينخرط فيها.