الذي "خرِب" في الواقع بسبب الدور الأساسيِّ الذي تلعبه باكستان حتى اليوم في الوحْل الأفغاني، هو المجتمع الباكستاني نفسه. دخلتْ تركيا معمعة الربيع العربي من الباب السوريِّ دون أن تكون مستعدة. فكان أن لعب رجب طيب أردوغان بحس المستشرف ولكن بإرادة المقامر.
ليست المؤشراتُ العسكرية وحدها هي التي تدفع المراقبَ إلى تلمّسِ تنامي جوٍ خطيرٍ جديدٍ في الوضع التركي. فبالإضافة إلى ذلك باتت تعبيرات القوى المدنية الكردية وبينها كتلة النواب الأكراد في البرلمان أكثر جرأةً على الإدلاء بتصريحات قاطعة في تشديدها على الهوية الكردية بل وفي دفاعها عن حزب العمال الكردي (PKK) وهذه من المحرمات، حتى أن الحدث الذي هزّ تركيا قبل أسابيع (19 آب) هو لقاءٌ في إحدى المناطق في محافظة هاكاري في الجنوب الشرقي نقلتْ صورَه الصحفُ بين مقاتلين من حزب العمال وبين تسعة نواب أكراد من حزب السلام والديموقراطية (BDP) في البرلمان التركي. ومع أن النواب ادّعوا وبينهم سيدات، إحداهن نائبة رئيس الحزب، أن اللقاء الذي تخللته معانقاتٌ كان بمحض الصدفة إلا أن عنصر الترتيب المسبق كان واضحا فيه رغم الجو الدراماتيكي الذي يولّده سقوط ضحايا عديدة وبشكل شبه يومي من الجيش التركي ورغم الزواجر القضائية الصارمة التي تجعل تركيا من أبرز البلدان التي يتعرض فيها الصحافيون والناشطون السياسيوّن للسجن.وأمس الأول بالذات أصدرت محكمة تركية حكما بالسجن ثماني سنواتٍ وتسعةَ أشهرٍ على النائبة الكردية من (BDP) صباحات تونْسِل بتهمة عضويتها السرية في (PKK).
إلى أي حد يساهم الوضع السوري الناشئ عن الثورة السورية في توليد و مفاقمة المظاهر الخطِرة من التململ الاقتصادي لدى رجال الأعمال الأتراك و بعض المجاهرات العلوية العنفية في أنطاكيا والأهم حاليا عودة الحرب بين الجيش وحزب العمال الكردي إلى مستواها في الثمانينات والتسعينات إنْ لم يكن أكثر... وماذا سيكون تأثير هذه المظاهر على مستقبل "المنجزات التركية" حسب تعبير رئيسة تجمع الصناعيين ورجال الأعمال (توسياد)؟
لا شك أن تركيا باتت اليوم بالنسبة إلى الوضع السوري ما كانته باكستان وما استمرت عليه إلى الآن بالنسبة لأفغانستان منذ وقعت تحت الاحتلال السوفياتي.
لقد انهزم السوفيات في أفغانستان وربح "المجاهدون" الحرب عليهم ولكن باكستان منذ ذلك الحين لم تعد هي نفسها وارتبط عدم استقرارها بدورها الثابت في الحرب الأفغانية التي لم تنتهِ حتى اليوم عبر تعاقب جيلين من التيارات الحاكمة والثائرة فيها على السواء.
صحيح أن باكستان وُلدت من فكرة تجميع المسلمين الهنود في دولة واحدة لكن الدولة لم تكن أصولية في أي يوم . واحتفظت نخبها ذات الشخصية المحافظة بنوع خاص من "التوجه العلماني" في ظل ارتباط قيامها أيضا كدولة بالغرب وبالدور المركزي الذي تلعبه مؤسسة الجيش فيها.
الذي "خرِب" في الواقع بسبب الدور الأساسي الذي تلعبه باكستان منذ أكثر من ثلاثين عاما إلى اليوم في الوحل الأفغاني ... الذي "خرِب" هو المجتمع الباكستاني نفسه قبل أي شيء آخر. فعشرات الألوف بل مئات الألوف من العناصر الأصولية الأفغانية وغير الأفغانية الآتية من كل حدبٍ وصوب في المرحلة الأولى بتمويل وتشجيع أميركي سعودي متحالفٍ مع الدعم الإيراني للثورة ضد السوفيات لم يجعل من المدن الباكستانية، وخصوصا بيشاور، مجردَ قواعد لدعم الجهاد الأفغاني فحسب بل حرّك في المجتمع الباكستاني من البنجاب إلى السِند نوازعَه الأكثر ظلامية وعنفاً وطائفية بفعل الإحتقانين السني والشيعي. في هذا الوقت كانت المعادلة الاستراتيجية التي رسمها الجيش الباكستاني ومعه الدولة الباكستانية في منظور مصالحها العليا هي ضرورة بناء علاقة عميقة مع "طالبان" انتقلت من عهد باكستاني الى عهد آخر أكان مدنيا أم عسكريا. ولهذا صار من الثوابت أن المخابرات العسكرية الباكستانية هي صاحبة نفوذ خاص على "طالبان" أيا يكن مستوى تحالفها الوثيق مع واشنطن. وواحدة من المشاغل المعلنة لوكالة المخابرات المركزية الأميركية منذ أكثر من عقد هي هذه العلاقة المريبة.
باختصار: رَبح الثوارُ في أفغانستان ولكن باكستان تورّطت بصورة أدّت إلى تخريب جزء مهم من نخبها ومؤسساتها بما فيها الاقتصادية حتى أنها قاربت أن تصبح "دولة فاشلة" بالمعايير الغربية إذا لم تكن قد أصبحت! فكيف، وهذا ما يثير الهلع في العالم، أنها دولة بإمكانات نووية بات عدد سكانها يتجاوز الماية وخمسين مليون نسمة؟ وأتذكّر أن وزير المال في حكومة نواز شريف أخبرني في تشرين الأول عام 1998 في إسلام آباد أن الإحتياط النقدي للدولة من العملات الصعبة في المصرف المركزي هبط إلى سبعماية مليون دولار وهو رقمٌ ضئيلٌ جداً قياساً على حجم دولة مثل باكستان (دولة صغيرة مثل لبنان لا تقبل قطعا بهذا الرقم كاحتياط نقدي).
بدون شك كانت تركيا دوما حتى في أزمنة الانقلابات العسكرية دولة أنجحَ من باكستان بمعايير التحديث الاقتصادي. صحيح أن هناك عناصرَ تشابهٍ بين المؤسستين العسكريتين في البلدين من حيث تَشكّلُ كليهما بمفهوم "دولة الجيش - جيش الدولة" إلا أن أفق التطور التركي كان أقوى وأكثر قدرةً على التحديثين الاجتماعي والاقتصادي.
الأقدار شاءت في القرن الحادي والعشرين أن تجعل تركيا هي القاعدة الأولى لدعم الثورة السورية، شبيهة فعلا بِـ"انطلاقة" دور جديد لباكستان بعد الاحتلال السوفياتي. كانت إيران أيضا تدعم "المجاهدين" لكن مركز الثقل هو باكستان. اليوم تركيا، لا الأردن ولا لبنان الشمالي على أهمية تسلّلِ المقاتلين والأسلحة منهما إلى سوريا، هي القاعدة الضخمة السياسية العسكرية للحرب ضد النظام السوري. هذا يعني أن عليها – وهي بدأت فعلا - محاولة التكيّف مع تدفّق صنوفٍ مختلفة من وإلى أراضيها من اللاجئين والمقاتلين السوريين والعرب وغير العرب مع ما يعني هذا من كِلَفٍ وتعقيدات عملية واختلاطات قد تكون خطرة على المجتمع التركي في جو أصبحت فيه السياسة الإقليمية التركية أكثر أسلمةً وانخراطاً في "المحور السني" ضد "المحور الشيعي" دون أن تكون تركيا قادرة على استحداث خط داعمٍ للثورة السورية يستطيع أن يتميّز عن نموذج التنافس المذهبي الضيّق الإيراني السعودي؟
ماذا لو طالت الحرب السورية وطال معها الأخدود الكرديُّ الطويلُ على معظم الحدود السورية الشمالية - الشرقية مع تركيا وطالت "الباكستنة" سنواتٍ وأصبحت غازي عينتاب التركية بيشاورَ الجديدة وطريق أورفة - إعزاز "ممر خيبر" الثاني؟
لا عودة إلى الوراء في سوريا والنظام سيتغير بطريقة ما حتمية. لكن ماذا لو كانت المرحلة الانتقالية طويلة جدا بحيث يُرهَق أو يُخرَّب النسيج التركي بينما يربح التغيير السوري؟
لقد دخلتْ تركيا معمعة الربيع العربي من الباب السوري، أي أخطر الأبواب كما ظهر، دون أن تكون جاهزة. فَرضَ عليها الوضعُ العربيُّ الجديد أن تلتحق به دون استعداد كافٍ، فكان أن لعب رجب طيب أردوغان بحسّ المستشرف ولكن بإرادة المقامر. بَهَرَتْهُ وبهرت قيادةَ حزبِهِ ضخامةُ التحولاتِ الداخلية في الدول العربية و مَوْجِها الغربيِّ الأميركي الأوروبي الاستراتيجي، فاندفع فيها كذئبٍ أناضوليٍّ مراهناً على وراثة إيران وسقوطٍ سريع للنظام السوري وغيرَ مقدِّرٍ عداوةَ الدبِّ الروسيِّ على كتف تركيا الشرقي و أهلية الجَمَلِ السعودي لوراثة طهران في سوريا بدلا من أنقرة.
أي كلام آخر هو نوعٌ من المكابرة. خصوصا مكابرات الأستاذ أحمد داود أوغلو. وها هي السعودية مرة أخرى بعيدةٌ عن خط التماس المباشر لأزمة هائلة ولا يدخل إلى أراضيها بالتالي لاجِئون. ها هي المملكة كما في دورها الباكستاني قوةُ دعمٍ وتمويلٍ عن بعد، وكما كانت في دورها العراقي خلال الحرب مع إيران في الثمانينات. بينما تركيا اقتحمت الثورة السورية وأقحمتْ نفسَها في دور الداعم المباشر الأول جغرافياً وسياسياً وعسكرياً. وهذه مهمة جديدة تماما على تاريخها المعاصر منذ تأسيس الجمهورية. لذلك فالمجازفة هائلة عليها بصورة خاصة لأنه - للتكرار - نجاح التغيير في سوريا قد لا يعني بالضرورة نجاحا لتركيا.
لم يكن ممكنا لأردوغان إلا الانخراط في التغيير السوري. السؤال الذي تخطّاه الزمنُ الآن هو هل كان بإمكان أردوغان اختيار طريق ثالث لدعم التغيير واحتضان المعارضة السورية؟ الجواب نعم.
في النتيجة لا شك أن تركيا تملك عناصر قوة ذاتية أقوى وأمتن من باكستان تجعل مناعاتها أعلى. لكن التجربة جديدة والتحذيرات يطلقها أتراك...